تمثل المشاكل التي تتعرض لها البيئة أحد الأبعاد الرئيسية للعولمة، فالآثار المترتبة على التشوهات التي تصيب البيئة تهدد توازن المنظومة الكونية كلها، على الرغم من حدوث هذه التشوهات أحياناً في حدود الدولة القومية. حتى إن هذه المشاكل لم يعد حلها ممكناً بمجرد اتخاذ قرار في ذلك في حدود الدولة القومية. فالهواء الملوث راح يعبر الحدود القومية دون إذن مسبق، وانبعاث ثاني أكسيد الكبريت في بلد ما بات يتساقط أمطاراً حمضية في بلد آخر، وتلويث نهر دولي في البلد المنبع أخذ يفقد البلد الممر أو المصب ثروته من المياه العذبة الصالحة للشرب أو للري. والمشاكل التي تتعرض لها البيئة تشمل مختلف المصادر الرئيسية لشروط الحياة على الأرض، كالهواء والتربة والمناخ والمياه.
ويعد النموذج السائد للنشاط الإنتاجي للإنسان في عصر الثورة الصناعية، وتحديداً في العقود الأخيرة من تلك الثورة، المسؤول الأساسي عن هذا. وتقدر كمية الكربون المنبعثة في الجو نحو 6 مليارات طن سنوياً، وينبعث من مدينة لوس أنجلس وحدها نحو 3طن سنوياً، وقد قدرت كمية ثاني أكسيد الكربون المنبعثة من جراء استخدام الطاقة عام 1988 نحو 6.3 مليارات طن، في حين ذكر مصدر في أثناء مؤتمر المناخ الذي انعقد في ألمانيا هذا العام ان الانبعاثات تزداد 1414 طناً كل ثانيتين. وتشير تقديرات أخرى إلى أن نحو 35 في المئة من غابات أوروبا البالغة مساحتها نحو 141 مليون هكتار تتعرض لدرجات متفاوتة من الضرر بسبب الرواسب الحمضية وتحمض التربة وتأثير اكاسيد النيتروجين الموجودة في الجو وبسبب تآكل طبقة الأوزون. وتقدر الخسائر الاقتصادية التي تتكبدها أوروبا من جراء ذلك نحو 35 مليار دولار سنوياً.
ولم تتوقف آثار انبعاثات الغازات السامة عند هذه الحدود فحسب، بل إنها باتت تهدد بتغيير طبيعة المناخ على هذا الكوكب أجمع، وهي ربما من أكبر المشكلات فوق القومية التي تواجهها البشرية. والأضرار التي يحدثها تآكل طبقة الأوزون لا تتوقف عند حدود تعرض الإنسان لبعض الأمراض، كحدوث خلل في جهاز المناعة واشتداد حالات الإصابة بالأمراض المعدية والمياه البيضاء، فضلاً عن تغيير القدرة الانتاجية لدى بعض النباتات وخفض كفاءة التنقية الطبيعية للمياه والاخلال بالنظم الايكولوجية للمياه العذبة عبر تدمير الكائنات الحية الدقيقة فيها… بل إن ما هو أخطر من ذلك الارتفاع المتزايد لدرجة حرارة الأرض الذي لم يتفق العلماء بعد على تحديد النتائج المحتملة لذلك، إذ يشير البعض في هذا الصدد إلى أن الاستمرار في تغير محتوى غازات الغلاف الجوي على هذا النحو قد يعود بالأرض إلى عصر جليدي أو إلى تصاعد درجة حرارة الأرض إلى حدود كارثية. ويشير البعض الآخر إلى أن ارتفاع حرارة الأرض سيؤدي إلى زيادة بخار الماء في الغلاف الجوي، الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى هطول أمطار أغزر وحدوث فيضانات أخطر واعداد أكبر من العواصف الرعدية أو العواصف الثلجية والأعاصير، كما يزداد خطر ارتفاع أمواج العواصف العارمة في المناطق الساحلية، وهناك من يتوقع ارتفاع معدل مياه البحار والمحيطات وانطمار المناطق المنخفضة بالمياه من جراء ذوبان الجليد في القطبين الشمالي والجنوبي. ويبدو أن هذا التحليل ليس بعيداً من الواقع، إذ بدأ القطب الجنوبي يشهد انقسامات ضخمة في مساحته الجليدية، في حين يقدر ان المساحة الجليدية في القطب الشمالي قد فقدت نحو 2 في المئة من سماكتها في السنوات العشر الأخيرة.
من جهة أخرى هناك نحو 6 ملايين هكتار من الأرض تستحيل صحاري سنوياً، وهناك أكثر من 550 مليون هكتار من الأرض تفقد الطبقة السطحية من تربتها أو أنها تتعرض لأشكال أخرى من التدهور بسبب الأساليب الزراعية الخاطئة، في الوقت الذي يقضى على نحو 11 مليون هكتار من الغابات الكثيفة سنوياً أيضاً. وقد خسر العالم منذ نحو نصف قرن نحو 20 في المئة من التربة السطحية في الأراضي الصالحة للزراعة ونحو 20 في المئة من الغابات المطيرة الاستوائية. ولم تعد الغابات تكسو اليوم إلا نحو 76 في المئة من المساحة التي كانت تكسوها عام 1700، حيث تراجعت من نحو 4.5 مليارات هكتار إلى نحو 3.4 مليارات هكتار، في الوقت الذي تراجعت بين عامي 1980 و1990 فقط نحو 130 مليون هكتار. وتشير التقديرات إلى أن إزالة الغابات تسبب في انبعاث ما بين 26 و33 في المئة من ثاني أكسيد الكربون في الجو سنوياً، فضلاً عن انها قد تسبب الفيضانات والجفاف وانجراف التربة، وتلحق أضراراً بالغة بالمناطق الجبلية…
وما لا يقل عن ذلك أهمية هو تسبب إزالة الغابات في القضاء على التنوع الحيوي، إذ إن ربع مجموع التنوع الحيوي الموجود على الأرض هو عرضة للانقراض خلال السنوات العشرين أو الثلاثين المقبلة إذا ما استمرت إزالة الغابات على هذه الوتيرة، ويقدر البعض انه يمكن أن ينقرض ما بين 15000 و50000 نوع من السلالات الحية النباتية والحيوانية، مع العلم أن هذا الانقراض لم يكن يتجاوز في الماضي النوع الواحد سنوياً. وإذا ما استمرت إزالة الغابات في حوض الأمازون وحده على هذه الوتيرة فسيسفر ذلك عن فقدان ما لا يقل عن 15 في المئة من الأنواع الحية.
وتطول سلسلة التدمير في نموذج الحداثة، إذ لا تقل أساليب الزراعة التي تعتمد على الأسمدة والمبيدات شأناً في هذا الأمر، فالكثير من المياه الجوفية العذبة قد تلوثت من جراء ذلك، فضلاً عن انتقال جزء من بقايا المبيدات غير المحللة إلى الإنسان نفسه. ففي الولايات المتحدة جرى تلويث نصف خزانات المياه الجوفية عبر تسرب المياه المحملة بالمبيدات وغيرها من الفضلات السامة إليها. وقد قدر عدد حالات التسمم الحاد غير المقصود في العالم بسبب التعرض للمبيدات بنحو مليون نسمة عام 1985 مقابل نحو نصف مليون نسمة عام 1972. ويقدر "التحالف القومي المناهض لسوء استخدام مبيدات الآفات" في الولايات المتحدة أن الإنتاج الأميركي من تلك المبيدات بات أسرع بنحو 13 ألف مرة عما كان عليه عام 1962. وقد ارتفعت كمية الاستهلاك العالمي للمبيدات من 69 مليون طن عام 1970 إلى نحو 146 مليون طن عام 1990، مع العلم أن جدوى استخدام المبيدات قصيرة الأجل، إذ لا يلبث مفعولها أن يتراجع ويزيد احتمال تعرض المحاصيل لأمراض جديدة، فضلاً عن أن الآفات المستهدفة من قبل المبيدات لا تلبث أن تتكيف معها لتحصن نفسها من مؤثراتها، في الوقت الذي تكون الآفات غير الضارة قد قضت.
ويبدو أن التطور المخيف في إنتاج المبيدات واستخدامها خاضع كلياً لمبدأ الربح الذي ما زال يمثل الهدف الأساسي لنمط الإنتاج الرأسمالي. وتشير التقديرات إلى أن إجمالي المبيعات من مبيدات الآفات زاد من 7700 مليون دولار عام 1972 إلى نحو 15900 مليون دولار عام 1985 ثم إلى نحو 25000 مليون دولار عام 1990. مع ان التقديرات تذكر ان نحو 90 في المئة من المبيدات المستخدمة لا تصل إلى الآفات المستهدفة وكل ما تفعله هو تلويث المياه والتربة والهواء.
1 - النفايات
حين كان يجري الحديث عن الثورات الصناعية أو عن الثورة العلمية والتقانية وعن أهميتها بالنسبة إلى تطور حياة الإنسان وتحقيقه مزيداً من السيطرة على الطبيعة، قليلاً ما كان يشار إلى الوجه الآخر لهذه الثورات، وعن آثارها السلبية ومخلفاتها التي تهدد مستقبل الإنسان والنظام الطبيعي برمته. وكثير من هذه المخلفات ما زال حتى الآن بمثابة أزمة أو كارثة مؤجلة. ففي الولايات المتحدة مثلاً هناك نحو 32000 موقع تحتوي على نفايات وصفت بأنها مواقع محتلمة الخطورة ويتطلب نحو 1200 موقع منها اتخاذ إجراءات سريعة للمعالجة. وكذلك الأمر في أوروبا، إذ هناك نحو 4000 موقع شبيه في هولندا و3200 موقع في الدانمرك، فضلاً عن تلك المنتشرة في ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وغيرها. وتقدر كمية النفايات التي ولدتها الصناعة عام 1989 في العالم نحو 2100 مليون طن من النفايات الصلبة ونحو 338 مليون طن من النفايات الخطيرة. وقد قدرت النفايات المنخفضة المستوى الناتجة عام 1990 نحو 370.000 م3، مقابل نحو 27000 م3 من النفايات متوسطة المستوى ونحو 21000 م3 من النفايات عالية المستوى والوقود المستهلك. وتطلق الولايات المتحدة وحدها نحو 275 مليون طن من النفايات الخطرة سنوياً، أي نحو 81 في المئة من إجمالي ما يطلقه العالم من هذه النفايات. وتشير التقديرات أن هناك طناً واحداً من النفايات الصلبة الصناعية يتولد أسبوعياً مقابل كل رجل وامرأة في الولايات المتحدة، وأن كل شخص هناك أيضاً ينتج سنوياً ما يعادل 20 طناً من ثاني أكسيد الكربون، وهو ينتج كذلك ما يزيد على ضعفي وزنه من الفضلات يومياً. وتلقي الولايات المتحدة في مياهها الساحلية سنوياً نحو 4.9 مليارات غالون من مياه المخلفات الصناعية.
ويجري التخلص من النفايات منخفضة المستوى عادة عبر تجميعها في منشآت سطحية أو طمرها أو حقنها في آبار جوفة، وهي يفترض أن تخضع للمراقبة على مدى 300 سنة. أما النفايات عالية المستوى فهي لم يتم التخلص منها حتى الآن وتقوم السلطات بتخزينها.
ونتيجة الضغوطات الاجتماعية التي بدأت تواجهها قضية النفايات في دول الشمال راحت هذه الدول تعمل على التخلص من هذه النفايات عبر إرسالها نحو بلدان الجنوب أو عبر إلقائها في أعماق البحار والمحيطات. وقدرت كمية ما نقل من نفايات في العالم عام 1983 نحو 1.8 مليون طن في حين قدرت هذه الكمية بين عامي 1986 و1988 بنحو 3 ملايين طن. وتأتي الولايات المتحدة في مقدم الدول المصدرة للنفايات، وتليها إيطاليا ثم اليابان. ويقدر انه في المعدل العام تعبر الحدود الأوروبية لمنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي شحنة نفايات خطرة كل خمس دقائق، أي بمعدل 100 ألف عملية نقل سنوياً. وقد بلغت كمية النفايات التي صدرتها منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي عام 1900 نحو 2 - 2.5 مليون طن.
2 - المسؤولية في استنـزاف البيئة
في ظل هذا الدمار الذي يحل بالبيئة، وفي ظل استنـزاف الموارد الطبيعية كثر في الأدبيات الغربية وكذلك في التقارير والوصفات الصادرة عن المؤسسات الدولية المعنية في هذا الموضوع، الحديث عن دور التخلف والتكاثر السكاني لدى شعوب الجنوب في الإخلال بالتوازن بين إمكانات النمو المحدودة للموارد الطبيعية على توفير الطاقة والغذاء وبين تلك الزيادة الأكثر تسارعاً لعدد سكان الجنوب وبالتالي الطلب المتزايد على تلك الموارد. وتتخذ من هذه الزيادات ذرائع من أجل تقديم وصفات لدول الجنوب من أجل الحد من الزيادة السكانية ومن الاستهلاك ومن التقديمات الاجتماعية. في حين أن أي مقاربة أولية تظهر أن المسؤولية الأساسية في استنـزاف البيئة وتدميرها وفي الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية وانضاب غير المتجدد منها تقع بصورة أساسية على سكان الشمال وعلى نمط الإنتاج الذي يقوم عليه الاقتصاد العالمي اليوم. وإذا عدلت هذه الأدبيات فهي تحمل المسؤولية إلى الناس الذين في طرفي سلم الدخل، أي الأغنياء الذين يفعلون ذلك بسبب ارتفاع معدلات الاستهلاك، والفقراء بسبب اضطرارهم إلى تأمين مجرد شروط بقائهم أحياء. وعلى الرغم من عدم صحة هذا التحليل من حيث تحميله المسؤولية للناس وليس للنموذج الذي يخضع هؤلاء الناس لآلياته، فهو، فضلاً عن ذلك، يقع في خطأ منهجي آخر حين يساوي من حيث النتيجة بين من يسيؤون للطبيعة من أجل الحفاظ على البقاء وبين من يسيؤون لها من أجل إشباع شهوات أو تحقيق أرباح لا حدود لها.
وعلى الرغم من ذلك تشير المعطيات ان المسؤولية المباشرة عن تدمير الطبيعة واستنـزاف مواردها وتلويث بيئتها تقع على عاتق بلدان الشمال أكثر مما لا يقاس من بلدان الجنوب، حتى ولو كان الأمر يتعلق في كثير من الأحيان ببعض الموارد الموجودة في بلدان الجنوب أصلاً. فالغابات الاستوائية مثلاً، الواقعة في بلدان الجنوب يتحمل المسؤولية الكبرى في إزالتها الشركات المستثمرة التي تستحوذ على مجمل القيمة المضافة للأخشاب مقابل عائدات ورسوم وإيجارات لا تمثل إلا نسبة ضئيلة من صافي القيمة لبلدان المصدر. أما من جهة استنـزاف الموارد الطبيعية والمواد الغذائية فتعد بلدان الشمال المسؤولة الأساسية عن ذلك. فالضرر الذي يلحقه الطفل الأميركي في البيئة مثلاً، يبلغ 13 ضعف الضرر الذي يلحقه الطفل البرازيلي فيها و35 ضعف الضرر الذي يسببه الطفل الهندي و280 ضعف الضرر الذي يسببه الطفل التشادي. ويبلغ معدل ما يستهلكه المواطن العادي في بلدان الشمال من المياه العذبة نحو 3 أضعاف ما يستهلكه المواطن في بلدان الجنوب. كما أن متوسط ما يدمره المواطن الأميركي من الموارد الطبيعية يفوق 100 مرة ما يدمره المواطن الهندي.